الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصي اللّه ورسوله نوعان: أحدهما: عقوبة المقدور عليه، من الواحد والعدد، كما تقدم. والثاني: عقاب الطائفة الممتنعة، كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال. فأصل هذا هو جهاد الكفار، أعداء اللّه ورسوله، فكل من بلغته دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إلى دين اللّه الذي بعثه به فلم يستجب له؛ فإنه يجب قتاله ولأن اللّه لما بعث نبيه، وأمره بدعوة الخلق إلى دينه، لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله، حتى هاجر إلى المدينة، فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى: ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله تعالى: وأكد الإيجاب، وعظم أمر الجهاد، في عامة السور المدنية، وذم التاركين له، ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب، فقال تعالى: وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في [سورة الصف] التي يقول فيها: والأمر بالجهاد، وذكر فضائله في الكتاب والسنة، أكثر من أن يحصر. ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع. كما دل عليه الكتاب والسنة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِرْوَة سَنَامه الجهاد)، وقال: (إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، أعدها اللّه للمجاهدين في سبيله) متفق عليه، وقال: (من اغبَرَّت قدماه في سبيل اللّه حَرَّمَه اللّه على النار) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة في سبيل اللّه خير من صيام شهر وقيامه. وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفَتَّان) رواه مسلم، وفي السنن: (رباط يوم في سبيل اللّه، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل)، وقال صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بَكَتْ من خشية اللّه، وعين باتت تحرس في سبيل اللّه) قال الترمذي:حديث حسن. وفي مسند الإمام / أحمد: (حرس ليلة في سبيل اللّه، أفضل من ألف ليلة يقام ليلها، ويصام نهارها)، وفي الصحيحين: أن رجلا قال: يارسول اللّه، أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل اللّه ؟ قال: (لا تستطيع). قال: أخبرني به ؟ قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر، وتقوم لا تفتر؟). قال: لا. قال: (فذلك الذي يعدل الجهاد). وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل أمة سياحة، وسياحة أمتى الجهاد في سبيل اللّه). وهذا باب واسع، لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه. وهو ظاهر عند الاعتبار؛ فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتمل من محبة اللّه ـ تعالى ـ والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر اللّه، وسائر أنواع الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر. والقائم به من الشخص والأمة بين إحدي الحسنيين دائماً؛ إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة. فإن الخلق لابد لهم من محيا وممات، ففيه استعمال محياهم ومماتهم /في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما؛ فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتها، فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد، وقد يرغب في ترفيه نفسه حتى يصادفه الموت، فموت الشهيد أيسر من كل ميتة، وهي أفضل الميتات. وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله للّه، وأن تكون كلمة اللّه هي العليا، فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين. وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة، كالنساء والصبيان، والراهب، والشيخ الكبير، والأعمي، والزمن ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يري إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر، إلا النساء والصبيان؛ لكونهم مالا للمسلمين. والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين اللّه، كما قال اللّه تعالى: وذلك أن اللّه ـ تعالى ـ أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: وجاء في الحديث: (إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا ظهرت فلم تنكر ضَرَّت العامة). ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أسر الرجل منهم في القتال، أو غير القتال، مثل أن تلقيه السفينة إلينا، أو يضل الطريق، أو يؤخذ بحيلة، فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح من قتله، أو استعباده، أو المن عليه، أو مفاداته، بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء، كما دل عليه الكتاب والسنة، وإن كان من الفقهاء من يري المن عليه ومفاداته منسوخاً. فأما أهل الكتاب والمجوس، فيقاتلون حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. /ومن سواهم، فقد اختلف الفقهاء في أخذ الجزية منهم، إلا أن عامتهم لا يأخذونها من العرب، وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة، فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين، حتى يكون الدين كله للّه، كما قاتل أبو بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ وسائر الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ مانعي الزكاة، وكان قد توقف في قتالهم بعض الصحابة، ثـم اتفقوا، حتى قـال عمـر بـن الخطـاب لأبـي بكـر ـ رضي اللّه عنهمـا: كيـف تقاتـل الناس وقـد قـال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (أمـرت أن أقاتـل النـاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فإذا قالوها، فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على اللّه)؟ فقال له أبو بكر: فإن الزكاة من حقها. واللّه لو منعوني عَنَاقا كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فما هو إلا أن رأيت اللّه قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، أنه أمر بقتال الخوارج، ففي الصحيحين عن على ابن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: (سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم /من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة). وفي رواية لمسلم عن على ـ رضي اللّه عنه ـ قال:سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج قوم من أمتى يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز قراءتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل)، وعن أبي سعيد، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) متفق عليه. وفي رواية لمسلم: (تكون أمتى فرقتين فتخرج من بينهما مارقة، يلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق). فهولاء الذين قتلهم أمير المؤمنين على ـ رضي اللّه عنه ـ لما حصلت الفرقة بين أهل العراق والشام،وكانوا يسمون الحرورية، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كلا الطائفتين المفترقتين من أمته، وأن أصحاب على أولي الطائفتين بالحق، ولم يحرض إلا على قتال أولئك المارقين الذين خرجوا من الإسلام، وفارقوا الجماعة، واستحلوا دماء من سواهم من المسلمين وأموالهم. فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة،أنه يقاتل من خرج عن /شريعة الإسلام،وإن تكلم بالشهادتين. وقد اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة، لو تركت السنة الراتبة، كركعتي الفجر: هل يجوز قتالها؟ على قولين. فأما الواجبات والمحرمات الظاهرة والمستفيضة، فيقاتل عليها بالاتفاق، حتى يلتزموا أن يقيموا الصلوات المكتوبات، ويؤدوا الزكاة، ويصوموا شهر رمضان، ويحجوا البيت، ويلتزموا ترك المحرمات؛ من نكاح الأخوات، وأكل الخبائث، والاعتداء على المسلمين في النفوس والأموال، ونحو ذلك. وقتال هؤلاء واجب ابتداء بعد بلوغ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بما يقاتلون عليه. فأما إذا بدؤوا المسلمين فيتأكد قتالهم، كما أكدناه في قتال الممتنعين من المعتدين قطاع الطرق. وأبلغ الجهاد الواجب للكفار، والممتنعين عن بعض الشرائع، كمانعي الزكاة والخوارج ونحوهم، يجب ابتداءً ودفعًا. فإذا كان ابتداء، فهو فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين، وكان الفضل لمن قام به، كما قال الله تعالى: فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين، فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين؛ لإعانتهم، كما قال الله تعالى:/ فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك قتال اختيار؛ للزيادة في الدين وإعلائه، ولإرهاب العدو، كغزاة تبوك ونحوها. فهذا النوع من العقوبة هو للطوائف الممتنعة. فأما غير الممتنعين من أهل ديار الإسلام ونحوهم، فيجب إلزامهم بالواجبات التي هي مباني الإسلام الخمس وغيرها، من أداء الأمانات والوفاء بالعهود في المعاملات وغير ذلك. فمن كان لا يصلى من جميع الناس، من رجالهم ونسائهم، فإنه يؤمر بالصلاة، فإن امتنع عوقب حتى يصلى بإجماع العلماء. ثم إن أكثرهم يوجبون قتله إذا لم يصل، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهل يقتل كافرًا أو / مرتدًا أو فاسقًا؟ على قولين مشهورين في مذهب أحمد وغيره. والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره، وهذا مع الإقرار بالوجوب. فأما من جحد الوجوب فهو كافر بالاتفاق، بل يجب على الأولياء أن يأمروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبعًا، ويضربوه عليها لعشر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، وكذلك ما تحتاج إليه الصلاة من الطهارة الواجبة ونحوها. ومن تمام ذلك تعاهد مساجد المسلمين وأئمتهم، وأمرهم بأن يصلوا بهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (صلوا كما رأيتموني أصلى)، رواه البخاري. وصلى مرة بأصحابه على طرف المنبر فقال: (إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي). وعلى إمام الناس في الصلاة وغيرها أن ينظر لهم، فلا يفوتهم ما يتعلق بفعله من كمال دينهم، بل على كل إمام للصلاة أن يصلى بهم صلاة كاملة ولا يقتصر على ما يجوز للمنفرد الاقتصار عليه من قدر الإجزاء إلا لعذر؛ وكذلك على إمامهم في الحج، وأميرهم في الحرب. ألا تري أن الوكيل والولي في البيع والشراء عليه أن يتصرف لموكله ولموليه على الوجه الأصلح له في ماله؟ وهو في مال نفسه يفوت نفسه ما شاء، فأمر /الدين أهم، وقد ذكر الفقهاء هذ المعني. ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس، صلح للطائفتين دينهم ودنياهم، وإلا اضطربت الأمور عليهم. وملاك ذلك كله صلاح النية للرعية، وإخلاص الدين كله لله، والتوكل عليه. فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا: وأعظم عون لولي الأمر خاصة، ولغيره عامة، ثلاثة أمور: أحدها: الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره. وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن. الثاني: الإحسان إلى الخلق، بالنفع والمال الذي هو الزكاة. الثالث: الصبر على أذي الخلق وغيره من النوائب. ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيرًا، كقوله تعالى: وأما قرنه بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جدًا. فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية، إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة، يدخل في الصلاة ذكر الله ـ تعالى، ودعاؤه، وتلاوة كتابه، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه. وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع: من نصر المظلوم، وإغاثة الملهوف، وقضاء حاجة المحتاج. ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل معروف صدقة)، فيدخل فيه كل إحسان. ولو ببسط الوجه، والكلمة الطيبة. ففي الصحيحين عن عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يري إلا شيئًا قدمه، وينظر أشأم منه فلا يري / إلا شيئًا قدمه، فينظر أمامه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، فإن لم يجد فبكلمة طيبة). وفي السنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقي أخاك ووجهك إليه منبسط، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي). وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن). وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم سلمة: (يا أم سلمة، ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة). وفي الصبر احتمال الأذي، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، ومخالفة الهوي، وترك الأشر والبطر، كما قال تعالى: فليس حسن النية بالرعية والإحسان إليهم: أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه، فقد قال الله تعالى: وكان عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ يقول: والله إني /لأريد أن أخرج لهم المرة من الحق، فأخاف أن ينفروا عنها، فأصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا، فأخرجها معها، فإذا نفروا لهذه، سكنوا لهذه. وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول. وسأله مرة بعض أقاربه أن يوليه على الصدقات، ويرزقه منها، فقال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد). فمنعهم إياها وعوضهم من الفيء. وتحاكم إليه على، وزيد، وجعفر، في ابنة حمزة، فلم يقض بها لواحد منهم، ولكن قضي بها لخالتها، ثم إنه طيب قلب كل واحد منهم بكلمة حسنة،قـال لعلى: (أنت مني وأنا منك)، وقال لجعفر: (أشبهت خلقي وخلقي). وقال لزيد: (أنت أخونا ومولانا). فهكذا ينبغي لولي الأمر في قسمه وحكمه؛ فإن الناس دائمًا يسألون ولي الأمر ما لا يصلح بذله من الولايات، والأموال والمنافع والأجور، والشفاعة في الحدود وغير ذلك، فيعوضهم من جهة أخري إن أمكن، أو يردهم بميسور من القول، ما لم يحتج إلى الإغلاظ؛ فإن رد السائل يؤلمه، خصوصًا من يحتاج إلى تأليفه، وقد قال الله تعالى: وإذا حكم على شخص فإنه قد يتأذي، فإذا طيب نفسه بما يصلح من القول والعمل كان ذلك تمام السياسة، وهو نظير ما يعطيه الطبيب للمريض، من الطب الذي يسوغ الدواء الكريه، وقد قال الله لموسي عليه السلام ـ لما أرسله إلى فرعون: وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، وأبي موسي الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ لما بعثهما إلى إلىمن: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا). وبال مرة أعرابي في المسجد فقام أصحابه إليه، فقال: (لا تزرموه) أي: لا تقطعوا عليه بوله، ثم أمر بدلو من ماء فصب عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)، والحديثان في الصحيحين. وهذا يحتاج إليه الرجل في سياسة نفسه وأهل بيته ورعيته؛ فإن النفوس لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها، فتكون تلك الحظوظ عبادة لله وطاعة له مع النية الصالحة. ألا تري أن الأكل والشرب واللباس واجب على الإنسان؟ حتى لو /اضطر إلى الميتة وجب عليه الأكل عند عامة العلماء، فإن لم يأكل حتى مات دخل النار؛ لأن العبادات لا تؤدي إلا بهذا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولهذا كانت نفقة الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيرها، ففي السنن عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا). فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار. فقال: (تصدق به على نفسك). قال: عندي آخر. قال: (تصدق به على زوجتك). قال: عندي آخر. قال: (تصدق به على ولدك). قال: عندي آخر. قال: (تصدق به على خادمك). قال: عندي آخر. قال: (أنت أبصر به). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك). وفي صحيح مسلم عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى). وهذا تأويل قوله تعالى: وذلك لأن نفقة الرجل على نفسه وأهله فرض عين،بخلاف /النفقة في الغزو والمساكين؛ فإنه في الأصل إما فرض على الكفاية، وإما مستحب؛ وإن كان قد يصير متعينًا إذا لم يقم غيره به، فإن إطعام الجائع واجب؛ ولهذا جاء في الحديث: (لو صدق السائل لما أفلح من رده). ذكره الإمام أحمد، وذكر أنه إذا علم صدقه وجب إطعامه. وقد روي أبو حاتم البستي في صحيحه حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ الطويل، عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ الذي فيه من أنواع العلم، والحكمة ـ وفيه: أنه كان في حكمة آل داود عليه السلام: (حق على العاقل أن تكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بأصحابه الذين يخبرونه بعيوبه ويحدثونه عن ذات نفسه، وساعة يخلو فيها بلذته فيما يحل ويجمل؛ فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات)، فبين أنه لابد من اللذات المباحة الجميلة، فإنها تعين على تلك الأمور. ولهذا ذكر الفقهاء: أن العدالة هي الصلاح في الدين والمروءة، باستعمال ما يجمله ويزينه، وتجنب ما يدنسه ويشينه. وكان أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ يقول: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل، لأستعين به على الحق. والله ـ سبحانه ـ إنما خلق اللذات والشهوات في الأصل لتمام مصلحة الخلق؛ فإنه بذلك يجتلبون ما ينفعهم، كما خلق الغضب ليدفعوا /به ما يضرهم، وحرم من الشهوات ما يضر تناوله، وذم من اقتصر عليها. فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق، فهذا من الأعمال الصالحة؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في بُضْع أحدكم صدقة). قالوا: يارسول الله، أيأتي أحدنا شهوته يكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أما يكون عليه وزر؟) قالوا: بلي. قال: (فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال). وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في في امرأتك). والآثار في هذا كثيرة. فالمؤمن إذا كانت له نية، أتت على عامة أفعاله، وكانت المباحات من صالح أعماله لصلاح قلبه ونيته، والمنافق ـ لفسـاد قلبه ونيته ـ يعاقب على ما يظهره من العبادات رياء، فإن في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب). وكما أن العقوبات شرعت داعية إلى فعل الواجبات، وترك المحرمات، فقد شرع ـ أيضًاـ كل ما يعين على ذلك. فينبغي تيسير طريق الخير والطاعة، والإعانة عليه، والترغيب فيه بكل ممكن، مثل أن يبذل /لولده،وأهله، أو رعيته ما يرغبهم في العمل الصالح، من مال، أو ثناء، أو غيره؛ ولهذا شرعت المسابقة بالخيل، والإبل، والمناضلة بالسهام، وأخذ الجعل عليها؛ لما فيه من الترغيب في إعداد القوة ورباط الخيل للجهاد في سبيل الله، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يسابق بين الخيل، هو وخلفاؤه الراشدون، ويخرجون الأسباق من بيت المال، وكذلك عطاء المؤلفة قلوبهم، فقد روي: أن الرجل كان يسلم أول النهار رغبة في الدنيا فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس. وكذلك الشر والمعصية، ينبغي حسم مادته، وسد ذريعته، ودفع ما يفضي إليه، إذا لم يكن فيه مصلحـة راجحة، مثال ذلك، ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان). وقال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومين إلا ومعها زوج أو ذو محرم). فنهى صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية، والسفر بها؛ لأنه ذريعة إلى الشر. وروي عن الشعبي: أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، كان فيهم غلام ظاهر الوضاءة، فأجلسه خلف ظهره. وقال: (إنما كانت خطيئة داود النظر). وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لما كان يعس بالمدينة فسمع امرأة تتغني بأبيات تقول فيها: /هل من سبيل إلى الخمر فأشربها ** هل من سبيل إلى نصر بن حجاج فدعي به. فوجده شابًا حسنًا، فحلق رأسه فازداد جمالاً، فنفاه إلى البصرة، لئلا تفتتن به النساء. وروي عنه: أنه بلغه أن رجلاً يجلس إليه الصبيان فنهى عن مجالسته. فإذا كان من الصبيان من تخاف فتنته على الرجال، أو على النساء، منع وليه من إظهاره لغير حاجة، أو تحسينه، لاسيما بترييحه الحمامات، وإحضاره مجالس اللهو والأغاني؛ فإن هذا مما ينبغي التعزير عليه. وكذلك من ظهر منه الفجور يمنع من تملك الغلمان المردان الصِّبَاح، ويفرق بينهما؛ فإن الفقهاء متفقون على أنه لو شهد شاهد عند الحاكم، وكان قد استفاض عنه نوع من أنواع الفسوق القادحة في الشهادة، فإنه لا يجوز قبول شهادته، ويجوز للرجل أن يجرحه بذلك وإن لم يره. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا. فقال: (وجبت، وجبت). ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًا، فقال: (وجبت، وجبت). فسألوه عن ذلك، فقال: (هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا فقلت: وجبت لها النار، أنتم /شهداء الله في الأرض). مع أنه كان في زمانه امرأة تعلن الفجور. فقال: (لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمت هذه). فالحدود لا تقام إلا بالبينة، وأما الحذر من الرجل في شهادته وأمانته ونحو ذلك، فلا يحتاج إلى المعاينة، بل الاستفاضة كافية في ذلك، وما هو دون الاستفاضة، حتى إنه يستدل عليه بأقرانه، كما قال ابن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم. فهذا لدفع شره، مثل الاحتراز من العدو. وقد قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه: احترسوا من الناس بسوء الظن. فهذا أمر عمر، مع أنه لا تجوز عقوبة المسلم بسوء الظن.
وأما الحدود والحقوق التي لآدمي معين فمنها النفوس،قال الله تعالى: فالقتل ثلاثة أنواع: أحدها: العمد المحض، وهو أن يقـصد من يعلمه معصومًا بما يقتل غالباً، سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه، أو بثقله كالسندان وكوذين القصار؛ أو بغير ذلك كالتحريق والتغريق، والإلقاء من مكان شاهق، والخنق؛ وإمساك الخصيتين حتى تخرج الروح، وغم الوجه حتى يموت، وسقي السموم ونحو ذلك من الأفعال. فهذا إذا فعله وجب فيه القود، وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل؛ فإن أحبوا قتلوا،/ وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية. وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله، قال الله تعالى: وروي عن أبي شريح الخزاعي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصيب بدم أو خبل ـ الخبل: الجراح ـ فهو بالخيار بين إحدي ثلاث، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه: أن يقتل، أو يعفو، أو يأخذ الدية. فمن فعل شيئًا من ذلك فعاد،فإن له جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا).رواه أهل السنن.قال الترمذي:حديث حسن صحيح،فمن قتل بعد العفو أو أخذ الدية فهو أعظم جرمًا ممن قتل ابتداء، حتى قال بعض العلماء: إنه يجب قتله حدًا، ولا يكون أمره لأولياء المقتول. قال الله تعالى: قال العلماء: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ، حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه، وربما لم يرضوا بقتل القاتل، بل يقتلون / كثيرًا من أصحاب القاتل كسيد القبيلة ومقدم الطائفة، فيكون القاتل قد اعتدي في الابتداء، وتعدي هؤلاء في الاستيفاء، كما كان يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات، من الأعراب والحاضرة وغيرهم. وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيمًا أشرف من المقتول، فيفضي ذلك إلى أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل، وربما حالف هؤلاء قوماً واستعانوا بهم، وهؤلاء قومًا، فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة. وسبب ذلك خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلي، فكتب الله علىنا القصاص ـ وهو المساواة والمعادلة في القتلي ـ وأخبر أن فيه حياة؛ فإنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين. وأيضًا، فإذا علم من يريد القتل أنه يقتل ،كف عن القتل. وقد روي عن على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعي بذمتهم أدناهم. ألا لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده). رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن. فقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، أي: تتساوي وتتعادل، فلا يفضل عربي على عجمي، ولا قرشي أو هاشمي على غيره من / المسلمين. ولا حر أصلى على مولي عتيق، ولا عالم أو أمير، على أمي أو مأمور. وهذا متفق عليه بين المسلمين، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود، فإنه كان بقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم صنفان من اليهود: قريظة والنضير، وكانت النضير تفضل على قريظة في الدماء، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وفي حد الزنا، فإنهم كانوا قد غيروه من الرجم إلى التحميم، وقالوا: إن حكم بينكم بذلك كان لكم حجة، وإلا فأنتم قد تركتم حكم التوراة، فأنزل الله تعالى: فبين ـ سبحانه وتعالى ـ أنه سوي بين نفوسهم، ولم يفضل منهم نفسًا على أخري، كما كانوا يفعلونه إلى قوله: وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول؛ فإنه أفضل لهم، كما قال تعالى: وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ، هو في المسلم الحر مع المسلم الحر. فأما الذمي فجمهور العلماء على أنه ليس بكفء للمسلم، كما أن المستأمن الذي يقدم من بـلاد الكفار رسـولاً أو تاجرًا ونحو ذلك، ليس بكفء له وفاقًا. ومنهم من يقول: بل هو كفء له، وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد. والنوع الثاني: الخطأ الذي يشبه العمد. قـال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن في قتــل الخطــأ شبه العمد مـا كـان في السوط والعصـا مائـة مـن الإبـل، منهـا أربعـون خلفـة فـي بطـونــها أولادها). سماه شبه العمد؛ لأنه قصد العدوان علىه بالضرب، لكنه لا يقتل غالبًا. فقد تعمد العدوان، ولم يتعمد ما يقتل. والثالث: الخطأ المحض وما يجري مجراه؛ مثل أن يرمي صيدًا، أو هدفًا فيصيب إنسانًا بغير علمـه ولا قصـده. فهـذا ليس فيـه قـود. وإنما فيه الدية والكفارة. وهنا مسائل كثيرة معروفة في كتب أهل العلم وبينهم.
|